الكمال هو سيف ذو حدّين، ففي السّعي إليه والرّغبة في تحقيقه تنمية للذّات وارتقاء نحو الأفضل، ولكن عندما تتحوّل هذه الرّغبة إلى هوس يضرب السّيف ضربته القاسية ويقود صاحبها إلى القلق المفرط ويحوّل حياته إلى بائسة.
في الواقع، يبدو السّاعين إلى الكمال أفرادًا مجتهدين وناجحين وطموحين، هم عامّة يحظون بمحبّة النّاس وإعجابهم، فينُظر إليهم على أنّهم مثاليّين. ولكن ما لا يدركه المجتمع أنّ ليس كلّ ما يلمع ذهبًا، فالمظاهر تغشّ ولا تعكس ما يعانيه هؤلاء بسبب هوس الكمال هذا.
في الحقيقة، هناك فرق شاسع بين “الكمال” والتّفوّق”، فغالبًا ما يصاحب السّعيّ إلى التّفوّق متعة لا يتحلّى بها درب الكمال، فالأفراد الّذين يصنّفون كـ”فائقي الكمال” يقسون على أنفسهم، لأنّهم يرفعون السّقف إلى معايير وأهداف غير واقعيّة يصعب تحقيقها، ولا يرضون بما هو أقلّ من الكمال، كما يهيّئون أنفسهم دائمًا للإحباط.
هذه الفئة من النّاس تحرم نفسها من الاستمتاع بعملها لأنّها تبحث دائمًا عن ثغرات وأخطاء فيه، فلا تسامح نفسها على أيّ خطأ تقترفه، الأمر الّذي يجعلها مكتئبة تارّة ومحبطة وغاضة طورًا.
ويتحوّل الكمال بالتّالي إلى عبء على حياة هؤلاء، فيحرمهم من العيش الحياة بملئها.
كما تسكن أعماقهم، في لاوعيهم، رغبة لكسب موافقة الآخرين وقبولهم ومودّتهم من خلال أيّ عمل ينجزونه. بيد أنّ ما يحتاجه هؤلاء في المقام الأوّل هو تقبّل أنفسهم قبل أيّ شيء آخر.
إذًا إنّ الرّكيزة الأساسيّة لعالم الكمال هو أن يتعلّم السّاعي إليه أن يحبّ ويتقبّل نفسهم، أن يتخلّى عن التّوقّعات غير العقلانيّة ويستمتع باللّحظة، أن يرحم نفسه ويختبر أنّه شخص جيّد بما فيه الكفاية.
هذا ويحتاج الأشخاص الّذين ينشدون الكمال إلى اختبار الحياة كما هي وترك الأمور تأخذ مجراها، وإلى الإقرار بأفكارهم الّتي عليها بنوا حياتهم. فهم مثلاً يعتبرون أنّ إنجاز أمر يجب أن يتمّ بشكل مثاليّ أم أنّه لا يستحقّ القيام به إطلاقًا. لذا يتعيّن على السّاعين إلى الكمال أن يتخلّوا عن المعتقدات الصّعبة المنال وأن يتكيّفوا مع أفكار أخرى تسمح لهم بالعيش بحرّيّة.
كما يمكن للعلاج النّفسيّ أن يساعدهم للتّواصل مع مشاعرهم والتّعبير عن قلقهم ومخاوفهم لإيفاء احتياجتهم بطريقة صحّيّة، ففي نهاية المطاف نحن جميعًا بشر، وعلى الإنسان أن يتقبّل أنّ ليست كلّ الأمور كاملة.
وأمام هذه الحقائق، لا بدّ من مجموعة من النّصائح والمفاتيح تلخّص عالم الكمال هذا، وتضع النّقاط على الحروف، فكما بات معلومًا أنّ:
– الكمال يحرم الفرد من التّمتّع بنفسه وبالحياة كما هي
– السّاعون إلى الكمال لديهم معايير عالية جدًّا يصعب تحقيقها
– هم يقومون بنقد ذاتيّ، يقسون على أنفسهم ولا يتقبّلونها ولا يقبلوا الخطأ
– التّخلّي عن الأفكار والتّوقّعات غير العقلانيّة
– تعلّم الاستمتاع وترك الأمور تحصل كما هي
– التّواصل مع مشاعرهم وإنسانيّتهم في الختام، عزيزي القارئ، إن كنتَ من السّاعين إلى الكمال، حاول ألّا تحوّل طموحك بالنّجاح إلى هوس بالكمال، فتغيير السّلوكيات والذّهنيّات ليس بعيب، ضع نصب عينيك أهدافًا واقعيّة وقابلة للتّنفيذ ووجّه سهامك نحوها، وتقبّل إمكانيّة الفشل لأنّ منه تتعلّم الوقوف من جديد.