يعمد الكثيرون إلى إرضاء الآخرين على حساب سعادتهم، الأمر الّذي يُعدّ في بعض الأحيان “تضحية”. وهذه التّضحية بالنّفس من أجل خير الآخر وإفادته يمكن أن تكون فعلاً صحّياً أحيانًا، ولكن عندما يستمرّ هؤلاء بالتّضحية بأنفسهم وكرامتهم سامحين للآخرين باستغلالهم، يخرج عندها هذا السّلوك عن مساره الصّحّيّ، ويُدخلهم في نفق من الإحباط والقلق.
إذًا، هل التّضحية بالنّفس وكرامة المرء صحّيّان عندما تسمح للشّخص الآخر أن يستغلّك؟
في الواقع إنّ التّضحية بالنّفس ليست سلوكًا مدمّرًا بحدّ ذاته، بل هو اختيار حرّ لحبّ الآخر وخدمته من دون شروط، وهو يمنح فاعله فرحًا وسلامًا داخليًّا.
وغالبًا ما يلجأ المرء إلى أساليب غير صحّيّة تدمّر الذّات من أجل أن يتقبّله الآخر ويحبّه، أساليب تنبع من حاجته إلى أن يُحِبّ ويُحَبّ، فيمكن في هذه الحالة أن يضرّ بكرامته مرّات عديدة، لدرجة أنّه يكون مستعدًّا أن يفعل كلّ شيء، حتّى أن ينكر نفسه، إرضاءً للآخر. ويتحوّل إذًا إلى “سجين” تأثير الآخر عليه، فيلجأ إلى تدابير متطرّفة لتحقيق حاجته، ولا يرفض للآخر طلبًا، ولا يدافع عن نفسه إن تتطلّب الأمر، وتضحي بالتّالي كلّ احتياجاته ومعتقداته وقراراته وأفعاله معتمدة على ما سيقوله الآخر عنه.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا التّصرّف يجعل المجتمع يحكم عليه أحيانًا ويصنّفه في خانة الفرد الّذي يخبّئ وراء سلوكه هذا غاية خاصّة، فيلجأ إلى إرضاء الآخر خدمة لهدفه.
ولكن من المهمّ هنا عدم الحكم على هذا الشّخص من دون فهم الأسباب الباطنيّة الّتي تدفعه إلى المساومة على إنسانيّته إرضاءً للآخر. فما هي هذه الأسباب؟
الخوف من أن يرفضه الآخر: فحاجته الأساسيّة كما كلّ إنسان هي أن يحبّ ويكون محبوبًا، فتراه بالتّالي يحاول فعل المستحيل لتقبّله مهما كان الثّمن.
الرّغبة بالانتماء إلى جماعة معيّنة: وهي تنبع من حاجة باطنيّة في لاوعيه، وهي تعبير عن نقص داخليّ متجذّر في طفولته، إذ من الممكن أنّ هذا الشّخص لم يشعر بقيمته الذّاتيّة عندما كان طفلاً، أو أنّه لم يشعر بحبّ الآخرين له إلّا عند القيام بأمر يرضيهم.
لذا من المهمّ أن يتساءل الإنسان: “عمّ أبحث فعلاً من خلال تصرّفاتي؟ هل أخاف من رفض الآخرين لي ومن فقدان محبّتهم؟”.
إذًا، قبل أن نحكم، يجب أن نفهم الأسباب الكامنة وراء سعي بعض الأفراد إلى إرضاء الآخرين. ومن الضّروريّ أن نعي أنّ حياتهم ليست بحياة ورديّة، بل نتيجة تصرّفهم هذا يضحون أسرى الآخرين، يفقدون إنسانيّتهم واستقلاليّتهم، وينشأ في أعماقهم صراع مستمرّ يسبّب لهم معاناة دائمة. وبالتّالي لن يكون التّغيير والتّحرّر من هذه القيود أمرًا سهلاً أيضًا، إذ يتطلّب قرارًا شجاعًا بخاصّة أنّهم بنوا أسس حياتهم وكوّنوا سلوكيّاتهم وفقًا للآخر وانطلاقًا من حاجتهم إلى القبول والعاطفة.
ولكن لكلّ داء دواء، فهنا يمكن للعلاج النّفسيّ أن يتدخّل فيساعده على التّنبّه إلى سلوكيّاته المدمّرة هذه، ويجعله يتواصل مع مخاوفه للتّغلّب عليها، ويكتشف حاجاته ومعتقداته وقيمه الأساسيّة، فيتّخذ قرارًا فعّالاً من أجل إثبات نفسه ووجوده من دون حاجته إلى إرضاء الآخرين وموافقتهم.
فإذا كنتم من هذه الفئة من النّاس الّذين يعيشون لإرضاء الآخر، إعلموا أنّه حان الوقت لتعيشوا من أجل أنفسكم أنتم، اعتنوا بأنفسكم بطريقة صحّيّة وبنّاءة وبالتزام يوميّ، فتجدون الفرح والسّلام والسّعادة الّتي تبحثون عنها. لا تتخلّوا عن لطافتكم في المجتمع ولكن لا ترضخوا لرغبات الآخر ملبّين احتياجاته على حساب كرامتكم وإنسانيّتكم، تعلّموا أن ترسموا حدودًا للآخرين وأن تقولوا “لا”، وأيقنوا أنّه إن لم يتقبّلوا هذا الرّفض فإنّ المشكلة فيهم وليست فيكم. أعطوا إذًا أنفسكم منذ هذه اللّحظة فرصة للتّحرّر ولبدء مسيرة جديدة.